القوة الناعمة

هذا الكتاب إسهام مهم وقاطع في فهم أعمق السياسة العالمية وفي سياسة خارجية أكثر حكمة، يقدمه واحد من أبرز الباحثين في السياسة الدولية. القوة الناعمة -كما يقول المؤلف- سلاح مؤثر يحقق الأهداف عن طريق الجاذبية بدلاً من الإرغام أو دفع الأموال، فرسالة ابن الرئيس الباكستاني مشرف إلى والده من بوسطن كانت -كما يقول المؤلف- مما ساعد في تغيير سياسة والده وتأييد أمريكا في حربها لأفغانستان، ومثله الطلاب الآخرون، يقول كولن باول وزير الخارجية الأمريكي السابق: لا أستطيع أن أفكر في رصيد لبلدنا أثمن من صداقة قادة عالم المستقبل الذين تلقوا تعليمهم هنا، ذلك أن الطلبة الدوليين يعودون إلى أوطانهم في العادة بتقدير أكبر للقيم والمؤسسات الأمريكية، وكما هو وارد في تقرير لمجموعة تعليمية دولية فإن ملايين الناس الذين درسوا في الولايات المتحدة على مدى سنوات يشكلون خزاناً رائعاً للنوايا الحسنة تجاه بلدنا، وكثير من هؤلاء الطلبة السابقين ينتهي بهم الأمر إلى احتلال مراكز يستطيعون من خلالها التأثير على نتائج السياسة التي هي مهمة للأمريكيين



لا بد أنك سمعتَ يومًا من أشخاصٍ أنّ الغربَ يحاول تدمير هوياتنا وقِيَمنا وديننا بما يصدّره لنا من "فجور وفساد"، أو سمعتَ المثقفين وهم يتحدثون عن الغزو الثقافي الغربي بنظرية المؤامرة وما إلى ذلك، إلا أننا نادرًا ما نجد من يحاول تحليل هذه الإطروحات وفق نموذج تفسيري إو إطار نظري واضح وموضوعي نفهم به الأمر كله في سياقه التاريخي والسياسي، إلى أن ظهر لنا (جوزيف س. ناي) بمصطلح "القوة الناعمة" عام 1990. وفي هذا المقال نستعرض كتابه الأخير "القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية" الصادر عام 2004، في ترجمته العربية التي أنجزها (محمد البجيرمي) وصدرت عن مكتبة العبيكان عام 2007. والمؤلف ليس مجرد مفكرٍ أو محلل سياسي، فهو عميد كلية كيندي للدراسات الحكومية في جامعة هارفارد، وكان رئيس مجلس المخابرات الوطني و مساعد وزير الدفاع في أميركا.

ولقد جاء هذا الكتاب ليوضّح مفهوم "القوة الناعمة" ويطوّره ويوضّحه بالأمثلة لأنّ الناس قد أساؤوا فهمه واستخدامه، وحصروه في نظرة سطحية لا تتجاوز تأثير الماكدونالدز والأفلام وتقاليع الأزياء وما إلى ذلك. أما التعريف الذي يضعه في الكتاب للقوة الناعمة فهو "القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال" (ص12)، وهكذا فهي تختلف عن القوة الصلبة المكونة من العتاد العسكري والثراء الاقتصادي واستعمالهما بالتهديد بالعقوبات أو الاستمالة بالمساعدات. أن تمتلك قوة ناعمة يعني أن تجعل الآخرين يعجبون بك ويتطلعون إلى ما تقوم به فيتخذون موقفًا إيجابيًا من قِيَمك وأفكارك وبالتالي تتفق رغبتهم مع رغبتك.

يبدأ الفصل الأول بتأصيل مفهوم القوة الذي يكثر الحديث عنه ويقل فهمه، وهو كما يقول المؤلف عبارة عن القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للقيام بعملٍ ما يتفق مع ما نريده. بعد ذلك ينتقل الحديث إلى القوة السياسية الناعمة بالنسبة للدول، ليوضح أن بلدًا ما قد يكون قويًا ذا تأثيرٍ في السياسة الدولية "لأن هناك بلدانا أخرى-معجبة بمُثُله، وتحذو حذوه، وتتطلع إلى مستواه من الازدهار والانفتاح-تريد أن تتبعه" (ص24). وهكذا نفهم أنّ القوة الناعمة تعتمد على قدرة الدولة في صياغة رغبات الآخرين بعد أن تكون بمثابة قدوةٍ لهم يتبنون قِيَمها وأسلوب حياتها. ومن أهم مزايا القوة الناعمة أنها تغني عن استخدام أسلوب العصا والجزرة، وهناك دول لا تمتلك قوة عسكرية أو اقتصادية كبيرة، إلا أنها تتمتع بقوة ناعمة بسبب مشاركتها في قضايا عالمية جاذبة مثل محادثات السلام ومبادرات الحفاظ على البيئة ومكافحة الأمراض والأوبئة. ولكن ذلك لا يعني بالطبع التقليل من أهمية القوة الصلبة.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق