دعوة للفلسفة

ظل هذا الكتاب فى عداد الكتب المفقودة أكثر من ثلاثة وعشرين قرنا .. حتى النصف الثانى من القرن التاسع عشر عندما نشر عالم ألمانى كتاب عن محاورات ارسطو تساءل فيه عن مضمون ذلك الكتاب الضائع وهدفه, ثم مرت مائة سنة كاملة قبل أن يعاد بناء الكتاب المفقود

يبدأ أرسطو دعوته بالإشارة إلى أهمية الفلسفة, والتساؤل عن الفضيلة والخير, ويبين أن كليهما لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق معرفة مطابقة له, ويتابع حججه دفاعا عن الفلسفة ليبين أن السعادة البشرية تقوم على فاعلية العقل

بتعريب الأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوي للنص اليونانى, ومطابقته على الطبعة الألمانية, وبتعقيبه وتعليقاته المضيئة عليه, يجد القارىء تلك البهجة والمتعة الذهنية التى أشاد بها المعلم الأول وأوشك أن يجعلها غاية الحياة على هذه الأرض



للتدليل – بصرف النظر عما أحاط هذا الكتاب من غموض واختفاء لقرون طويلة  - على أهمية الفلسفة بما هي تموقع في الأنماط البدئية، وتأكيد قدرة الإنسان على أن (يفهم)، بما تحمله هذه الكلمة من دلالات أنطولوجية، تُمكّن الإنسان من معرفة أسباب كل شيء؛ فإنّ أرسطو يفتتح كتابه (دعوة للفلسفة) ، بإشارات تؤكد القيمة المعنوية للإنسان وانزياحاته ناحية الداخل، أكثر من تأكيده على قيمته المادية وتموقعاته الخارجية؛ إذ يقول:

"إن السعادة في الحياة لا تقوم على امتلاك الثروة الكبيرة، وإنما تعتمد على الحالة النفسية الطيبة، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالجسم، فلن يصف إنسان أحداً من الناس بأنه مبارك الحظ من الآلهة لمجرّد أنه يرتدي ثياباً فخمة، بل سيخلع هذه الصفة على من وهب الصحة وتمتّع بالمزاج الصحيح، حتى ولو لم يكن له أدنى نصيب من الزخرف الخارجي. وبالمثل لا يصف المرء نَفْساً بأنها سعيدة إلا إاذا كانت نَفْساً مثقفة، ولا إنساناً بالسعادة إلا إذا كان مهذباً".
وفي تأكيده على هذا التوجّه المبدئي، يطرح أرسطو سؤالا [وهو جوهر كتابه وماهيته الأساسية]: "هل من واجب الإنسان أن يتفلسف"؟. ، لناحية أن الفلسفة وحدها تنطوي على الحكم الصحيح والتبصُّر المعصوم من الخطأ الذي يملك القدرة على تحديد ما ينبغي علينا أن نأتي من الأفعال وأن ندع"

يُحاجج أرسطو، ليس بضرورة التفلسف فحسب، بل في أهميتها للتحقّق في السعادة. "فنحن عندما نستعين في سلوكنا بالتفكير، فإنما نهتدي بهديه"  وكلّما كان التفكير خالصاً أكثر، كان أكثر شرفاً ورفعةً. "فالتفكير الخالص يستمد شرفه من ذاته، وحكمة العقل هي الشيء الذي يستحق من الإنسان أن يسعى لطلبه منه، كما أن الفِطنة العملية في الحياة جديرة بالسعي إليها من أجل الفعل أو السلوك. وإذاً فالخير والشرف ملازمان للتفكير الفلسفي قبل كل شيء آخر... والإنسان إذا حرم من الإدراك الحسي والعقل صار شبيهاً بالنبات، وإذا حُرم العقل وحده تحول إلى حيوان، أما إذا تحرر من غير المعقول وتمسّك بالعقل فقد صار شبيهاً بالإله".

"فالتبصّر بالمبادئ هو أعظم الخيرات"  التي يمكن أن تطال الإنسان العاقل. "فالبصير العاقل يختار حياة التبصر والعقل، [وعليه] فالإنسان الذي وهب مَلَكَة العقل سيختار الفلسفة، لأن التفلسف هو مهمة هذه المَلَكَة... فالتأمل والمعرفة جديران بأن يسعى إليهما الإنسان، إذ بغيرهما يستحيل على المرء أن يحيا الحياة التي تليق بإنسانيته".
ولربما وجد المرء هَهُنا أثراً لأفلاطون على آراء أرسطو، لا سيما عالَم المُثُل الذي يُشكّل المسعى الأرقى للإنسان بحسب افلاطون، إلا أن أرسطو يربط هذه المُثُل بالواقع المعيش: "فالتأمل والمعرفة جديران بأن يسعى إليهما الإنسان، إذ بغيرهما يستحيل على المرء أن يحيا الحياة التي تليق بإنسانيته. ولكنهما كذلك نافعان للحياة العملية، فما من شيء يبدو لنا خيراً إن لم تتحقق الاغية منه عن طريق التدبر والنشاط العاقل الحكيم".
وعن الفائدة الكبيرة التي يتيحها النشاط الفكري في الحياة الواقعية لبني البشر، يقول:
"إن جميع الأطباء الحاذقين ومعظم معلمي الألعاب الرياضية مجمعون على أن الذي يريد أن يكون طبيباً أو معلماً بارعاً يتحتّم عليه أن يعرف الطبيعة معرفة وثيقة. والأمر كذلك مع المشرّعين المبرّزين الذين يجب عليهم أن يعرفوا الطبيعة معرفة دقيقة، بل أن تفوق خبرتهم بها خبرة أولئك، لأن أولئك يظهرون حِذقهم في المهنة بتنمية كفاءة الجسد. أما هؤلاء، فينصرفون إلى فضيلة النفس ويسعون لتوجيه الناس إلى السبل المؤدية لسعادة المجتمع أو شقائه، ولهذا تزيد حاجتهم إلى الفلسفة  وفي المهن اليدوية الأخرى تكتشف أفضل الأدوات عن طريق ملاحظة الطبيعة؛ ففي النجارة مثلاً يكتشف الفادن والمسطار والأداة التي ترسم بها الدائرة، وفي بعض الأدوات تكون ملاحظة الماء هي النموذج الذي نحاكيه، وفي بعضها الآخر نحتذي بأشعة الشمس التي تلتقطها. وبمساعدة هذه الأدوات نثبت مما هو مستقيم ومستوي، حيث يلائم الإدراك الحسي بدرجة كافية".

ويستطرد أرسطو في ذكر الأمثلة المعزّزة لأطروحته التي يتناولها في كتابه (دعوة للفسلفة) إلى أن يقول، حاسماً بذلك مسألة الأهمية القصوى لفعل التفلسف والفائدة العظيمة، التي يمكن أن تنال الإنسان في حال تفلسف ووصل إلى الأنماط البدئية، التي تُمكّنه من بسط سيطرته بطريقة ماتنة، على واقعه المعيش:

"إن الفيلسوف وحده هو الذي يحاكي الأشياء ذاتها لا الصورة المقلدة لها"

هنا أمكن ملاحظة أنّ الدعوة الأرسطية للتفلسف، هي دعوة برسم العامة أكثر منها دعوة برسم الخاصة، نظراً لانطواء أطروحته على أمثلة كثيرة تلامس المجتمع في واقعه المعيش؛ فالحداد والنجّار والمهندس والبنَّاء...إلخ، أناس معنيون بالتفلسف، لأنه يفتح لهم أفقاً جديداً، يجعل من أعمالهم أكثر أصالةً وإبداعية، وذلك بإطلّاعهم –بادئ ذي بدء- على الأنماط البدئية ووصولهم إلى أشفّ معارف تخصصاتهم، بما يجعل من نماذجهم نماذج أصيلة، وليست محض تقليد.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق