مما لا يختلف فيه اثنان أن ابن رشد فيلسوف كبير وخطير، ومن الصعوبة بمكان أن يحدد المرء معالم فلسفته ومذهبه كما قلت آنفاً حيث اختار لنفسه الغموض في حياته، ولا أقول إن ابن رشد لا يملك الجرأة الكافية التي تمكنه من الإعلان عما يتفاعل في نفسه من آراء عرفانية ولكني أقول: عن ابن رشد لم يستخدم أو لم يرد أن يستخدم جرأته في الإعلان عن مذهبه, والثبات عليه بشكر واضح ودائم بل قد اضطر أحياناً إلى مسايرة الناس في خلاف ما يعتقد, ْ وخصوصاً بعد أن نكب على يد السلطان المنصور ابن أبي يعقوب، سلطان الموحدين وأحرقت كتبه في الفلسفة
لا شك أن ابن رشد هو أحد كبار الفلاسفة في الحضارة العربية الإسلامية. وقد ترك للإنسانية مآثر علمية جليلة استفادت منها بلاد الغرب التي تنعم الآن بحضارة راقية؛ إذ كان لابن رشد وغيره من علماء العرب والمسلمين فضلاً كبيرًا في بناء قاعدة تلك الحضارة. فقد استمد الغرب الكثير من التراث العربي الإسلامي – ذلك التراث الذي مازال طلاب العلم الغربيون ينهلون منه في جامعاتهم وفي مجالات بحوثهم ودراساتهم. وقد بحث ابن رشد كثيرًا في الفلسفة، ولكنه لم يهمل الحقول المعرفية الأخرى، فعكف على القراءة والكتابة؛ إذ يُروى عنه أنه لم ينقطع عن القراءة والكتابة إلا في ليلتين: إحداهما كانت يوم وفاة والده، والثانية كانت ليلة زواجه! وقد ألَّف ابن رشد في الفيزياء والفلك والطب والفلسفة وغيرها.ولقد صدق المؤلِّف المعروف جورج سارتون عندما قال في كتابه المدخل إلى تاريخ العلوم:
إن ابن رشد كان من أكابر فلاسفة الإسلام. ولقد أثَّر على فلاسفة أوروبا بفلسفته أكثر من أرسطو نفسه. ودون ريب، فإن ابن رشد هو مؤسِّس الفكر الحر: فقد فتح أمام علماء أوروبا أبواب البحث والمناقشة على مصاريعها؛ لذا فإنه أخرجها من ظلمات التقييد إلى نور العقل والتفكير.
ولقد طغى نشاط ابن رشد الفلسفي على شهرته المرموقة وثقافته الفياضة في العلوم الأخرى، مثل الطب والفلك. وقد ذكر جورج سارتون في الكتاب نفسه:
إن شهرة ابن رشد في عالم الفلسفة كادت أن تحجب منجزاته في الطبيعيات. على أن ابن رشد كان يُعتبَر في الحقيقة من أكبر الأطباء في عصره. فقد ألَّف نحو عشرين كتابًا في الطب، بعضها تلخيصات لكتب جالينوس، وبعضها مصنفات ذاتية، وقد تُرجِمَ أكثرها إلى العبرية واللاتينية؛ وأشهرها كتاب الكليات في الطب، وهو موسوعة طبية في سبعة مجلدات، ترجمه إلى اللاتينية الطبيب بوناكوزا من جامعة بادوا في سنة 1255، وطُبِعَ مرات عديدة مضافًا إليه كتاب التيسير لابن زهر.
نتيجة ذلك أن ابن رشد قد اشتهر شهرة عظيمة بين الأوروبيين في مجالين أساسيين من المعرفة، هما الطب والفلسفة؛ ولكن لن ننسى جوانبه الفكرية والثقافية الأخرى التي لم تكن أقل إشراقًا.
***
ولد أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي في قرطبة بالأندلس، وعاش في الفترة بين 520-595 هجرية (1126-1198 م)؛ ويسمِّيه الإفرنج Averroès. كان ينحدر من سلالة من المتبحِّرين والقضاة اللامعين[5]: فجد ابن رشد وسميُّه كان قاضيًا صنَّف في الفقه، وله فتاوى بنوازل عصره ذات مكانة عالية. وقد تسلَّم والد ابن رشد أيضًا القضاء؛ لكن لِما شُهِرَ به جده ولِما حظي به من مكانة، وكيما يُميَّز عنه، يضاف في العادة إليه لقبُ "الحفيد" ويضافُ إلى جدِّه لقب "الجد"
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق