العمق الإستراتيجي: تركيا

كتاب "العمق الاستراتيجي.. موقع تركيا ودورها في السياسة الدولية" هو نظرية جديدة تُضاف إلى علوم السياسة المعاصرة، هي خلاصة بحث طويل ودراسات متعمقة في عوامل النهضة والريادة لكل مجتمع ودولة. وما يميّز الكتاب هو تجاوزه للأطر النظرية المجردة؛ ليصوغ رؤية استراتيجية تطبيقية شاملة لما يمكن أن تكون عليه مكانة تركيا في الساحة الدولية. هذه الرؤية وضعها المؤلف أحمد داود أوغلو قبل عشر سنوات في العام 2001 في النسخة التركية للكتاب، أي قبل أن يصل حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة، وقبل سنوات من تبوؤ أوغلو لمنصب وزير الخارجية. وتمثل هذه النظرية الخطوط الرئيسة والاستراتيجية للسياسة الخارجية لهذه الحكومة، بل تجسدت واقعاً حياً ملموساً لكل متابع لتطورات الأحداث التركية داخل تركيا وخارجها، حيث توافر لداود أوغلو منذ توليه منصب كبير مستشاري رئيس الوزراء عام 2003، وانتهاء بتعيينه وزيراً للخارجية العام 2009، أن يعمل لتنفيذ هذه الرؤية وشهدنا بصماته في الانفراج في العلاقات التركية - العربية ومواقف تركيا من السياسات الإسرائيلية والأميركية في السنوات الأخيرة.


يحظى كتاب وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو المعنون بـ«العمق الاستراتيجي.. موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية»، الذي صدر منذ أيام باللغة العربية، بأهمية خاصة، نظرا للدور الذي تلعبه تركيا في المنطقة، ولمكانة الرجل الخاصة في رسم السياسات الخارجية لبلاده، لا سيما علاقتها بمحيطها. أوغلو وضع كتابه هذا باللغة التركية عندما كان أكاديميا وأستاذا للعلوم السياسية، وبنى مؤلفه على أبحاث معمقة حول موقع بلاده وقدرتها على نسج علاقات مع جوارها تكسبها قوة استراتيجية فقدتها طوال القرن العشرين. وإن كان الكتاب في نسخته الأولى قد كتب عام 2001 أي قبل أحداث 11 سبتمبر (أيلول) ودخول الجيش الأميركي العراق، فإن مراجعة أجراها المؤلف على الكتاب، بحيث تم تحديثه بما يتناسب والتطورات الجديدة التي حصلت، وهو ما سيكون في متناول قارئ العربية. الكتاب صادر عن «الدار العربية للعلوم» في بيروت، وهو ضمن سلسلة يعمل على أن ترى النور «مركز الجزيرة للدراسات». بدأ العمل على الكتاب الذي تجاوز عدد صفحاته بالعربية 600 صفحة، منذ سنتين وعكف على ترجمته كل من محمد جابر ثلجي، وطارق عبد الجليل، وراجعه بشير نافع وبرهان كوروغلو.
مهندس السياسة الخارجية التركية أحمد داود أوغلو يطرح نفسه كمفكر، يرسم في الكتاب صورة لما كان عليه حال تركيا خلال الحرب الباردة، ومن ثم التحولات التي شهدها العالم، وبقيت خلاله تركيا مهمشة لفترة من الزمن، إلى أن استطاعت أن تستعيد دورها. وتأتي أهمية هذا البحث المطول من أن كاتبه استطاع اختبار أفكاره على الأرض، وتحقيق رؤيته السياسية الدولية، عندما عين كبيرا لمستشاري رجب طيب أردوغان عام 2003 ومن ثم وزيرا للخارجية عام 2009. بمعنى آخر، فإن الكتاب يشرح بوضوح، أي سياسة تنتهجها تركيا منذ سنوات، وما هي تصوراتها المستقبلية، وما الأهداف التي تسعى إلى تحقيقيها.
يمكننا القول إن أوغلو رجل يؤمن بأن التاريخ والجغرافيا لأي بلد هما العنصران الأساسيان اللذان تبنى عليهما الاستراتيجيات، ومن هنا جاءت نظريته المسماة بـ«العمق الاستراتيجي»، معتبرا أن لا نهوض لتركيا من دون تشبيك قوي مع هذا العمق الذي يمتد باتجاه العالمين، العربي الإسلامي، والقوقاز، وأرمينيا وإيران وأيضا أوروبا. أي أن على تركيا أن تمتد غربا كما تمتد شرقا، وفي كل الاتجاهات، خصوصا أن حدودها المتعددة، وهويتها المركبة بين آسيا وأوروبا تسمح لها بذلك، لا بل تجعله واجبا عليها. هو يؤمن أن التاريخ والجغرافيا ثابتان لا يمكن تغييرهما، لكن المتغير الذي يجب العمل عليه هو طريقة قراءتنا لهما. من هنا فإن أوغلو يعتبر أن تركيا انتزعت عنوة من محيطها بعد الحكم العثماني وخلال الحرب الباردة. إذ لم يكن من الطبيعي أن توجد تركيا المنتمية إلى حلف «الناتو» على حدود سورية المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي مما مزق العائلات وشتت الناس، وهو أيضا كان حال تركيا مع العراق، وكذلك مع جورجيا وبلغاريا.
من هنا يمكن فهم العمل الطموح لـ«حزب العدالة والتنمية» منذ تسلم السلطة، لإنجاز مصالحات مع الجيران، لا تقف عند حسن الجوار وإنما الهدف منها تحقيق تكامل اقتصادي، كما يقول أوغلو. وهو ما بدأته تركيا مع سورية والعراق وتسعى إليه الآن، مع روسيا واليونان، كما تم الصلح مع أرمينيا. يتحدث أوغلو عن «تطبيع التاريخ» أي السير في الاتجاه الطبيعي للأمور وليس عكس المنطق الذي تفرضه المعطيات الحاضرة. ما تريده تركيا بالتحديد هو نظام إقليمي يستند على 4 عناصر: علاقات سياسية رفيعة، وأمن للجميع، وتكامل اقتصادي، وتعاون ثقافي. لا يرى أوغلو أن مصير أي عاصمة عربية مختلف عن مصير إسطنبول أو أنقرة، فالتشابك حاصل، مما يستدعي استراتيجية عمل واحدة، يتفق عليها الأطراف جميعا.

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق